توحد الشاعرية واختلاف اللغتين

لدى الأديب خاقاني

 

مازال الأديب الدكتور محمد خاقاني  أنموذجا للتوحد الفكري  الذي وقفنا عليه في دراسته (عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي  في الأدبين العربي والفارسي) التي قدّمنا لها وعرفناه فيها  باحثا يسعى  إلى الكشف  عن تآلف اللغات ، وقد قدّم

 

مثالا لتوحد اللغتين الفارسية والعربية في البيئة الإسلامية ، وإن اختلفتا في أصولهما التأريخية ، فتلك  هندية أوروبية ، وهذه جزرية أفريقية . والذي عليه التحقيق العلمي  أنّ تعدد اللغات ليس مصادرة لمنطق الإنسان وفكره ، إنما هي ألسن مختلفة تؤدي  إلى  التكامل  الحضاري  عبر تواصل التفكير اللغوي .

والأديب خاقاني في مجموعته الشعرية التي أمتعنا به يؤكد أيضا التوحد العاطفي بين المشاعر الإنسانية ؛فقد  وجدت في  شاعريته  الفياضة مثالا لتماثل المشاعر النبيلة والعواطف الصادقة التي اتسعت لها لغته الفارسية ، ثم وجد أنّ اللغة العربية التي أتقنها قد استطاعت استيفاء جميع  أفكاره ومشاعره  والتعبير عنها بلغة جميلة ، وهي لغة القرآن الكريم التي وسعت كلّ الأفكار والحقائق الكونية والدينية ” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” ،

قال خاقاني :

 

نحن طلاب اللسان العــربي
بلسان عــربــي ربـنا
نطلب العلـم بجـدّ الطلـب
نزّل الوحي علی قلـب النبـي

 

إنّ الأديب خاقاني في مجموعته الشعرية قد أنتجت موهبته الشعرية  قصائد مترجمة من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية توحدت في التعبير عن المشاعر النبيلة والمقاصد الشريفة  في أمثال قصيدته ( حلاوة الإيمان ) :

ناداني:

لاتغمض عينيک وشاهد عزّ مقامي

لاتثقل أذنيک وأصغ إلی حلو کلامي

هدأتْ نفسي

واعتنقت لشريعة محبوبي

 

وفي قصائده الشعرية  تعبير عن فلسفته وموقفه من الوجود :

ما أجمل الوجود!

لم أر فيه ما سوی الخير الذي يجود

کماله يقود کل شاهد إلی السجود

ما أجمل الوجود!

جماله يظهر في حدائق الورود

 

وقال في العقل والوحي :

العقل والوحي  جناحا طائـر
متأصلون بشرعنا  وعـقولنا
يسمو بنا فی ذروة التکميل
کغداة انـفلقت بکل أصيل

وظل شعره  ينوء بالهموم الإنسانية والدينية عبّر عنها في ( هيا نحاور ) :

أنت بوذي؟ يهـودي؟ مسيحي؟
أنت لي إمّا نظيري في وجـودي
أيها الناس انتهـوا من لجّـة الحر
احترقنا من شظی نـار حريـق
قد تعبنا من قذی قيـل وقـالِ
أنت إنسـان سمـا هيّـا نحاور
أو أخو ديـن صفـا هيّا نحاور
بِ التي عجّـت بنـا هيا نحاور
ولّعت فينـا اللظـی هيّا نحاور
أو جدال قـد أذی هيـّا نحاور

وله قصائد في  الأقطار الإسلامية عبّر فيها عن المسافر الذي زاده الخيال ليبوح عن أسرار المكان وما يراه  في تلك  الأماكن من الجماليات التي تختص بها هذه المدينة أو تلك، فقد قصد بيروت  طائرا، وقال:

طار من إيران من فوق الجبـال
جازمن فوق الصحاري والبحور
غرّد الحنجر بالعنجر مـــن
قاصداً لبنان في سير  الســری
جاب ودياناً إلي أن  قد  دنــا
روضة الخلد الـتي   فيهـا رأی

    وقال في عمان :

أهدي سلامـي خالصا لعمان
وأوجّه الشکر الجزيل إلی الألی
وتحية الإکرام  من إيـران
فتحوا عليّ نوافذ  الإيمـان

ومما أعجبه في عمان  المسجد الكبير لجلالة السلطان قابوس حفظه الله ورعاه والحق معه فهو أثر حضاري ومعلم إسلامي عظيم :

 

ولقدعجبت من الجوامع بالذي
هو جامع جمع الفنون  جميعها
أدّيـت فيـه رکعتـين تحيةً
فالفرش سجّاد بدون  منازع
والعرش خلاب بصورة قبـّة
سوّاه أمـر جلالة  السلطان
جمع الـوری  لعبادة الرحمن
وبدأت أنظـر  حوله  لثوان
کالورد منظـره  وکالريحان
تحکي السماء بأجمل  الألوان

وحيّا  المغرب العربي :

للمغرب الفيحاء كل سلامي
ولأهلها المتمسكين جميعهـم
وسلام إيران التي تدعو إلـی
من قلب صـب شائق بسام
بالعروة الوثقـی من الإسلام
نـشر المحـبة والإخاء الحامي

ودعي إلى سيئول، فقال :

قد شرّفتـني دعوة کوريـة
فشددت رحلي وانطلقت مسافراً
جبت السماء بطائـر وکأنـه
ونزلت في أرض کقطعة لـؤلـؤ
لي فيهم ندمان حـبّ معشــرٌ
ما کان في وسعي سوی شرف القبول
فوق الجبال وفـوق غابـات السهول
ملک السماء يجرّ  أطـراف الذيـول
بلد يصـبّ النـور المطـر الهطـول
شمل المحبـّة فيهــم ذرو الشمـول

ولم يغفل عن بوحه بجمال المرأة وتصابيه وغزله ، قال  :

کل مرآة تنال النور من وجـه الحبيب

تعکس الأنوار فوراً حيث يسعصي العبـر

کل ما في الکون مرآت لسيماه الجميل

إنه الرائي هو المرئـيّ ذا سـرّ القــدر

وقال :

يا لوعة لهبت متی شبيـتها
رشفت سعاد خمرة صبيتها
حتی بدت أسرار ما خبيتها
فبغمزة من عينـها لبـيتها

حبيتها حقا متي حبيتها

ولم يقو إلا بالتصريح بمن  أحبّها وأحبّته:

ما لخاقـاني يفيـض بمثل هذا؟؟
ليتها حرقـت بما  قد أحرقـتني
ليس  إلا  ما أفاضـتني سعاد
منذ  أبدت أن  أحبتني  سعاد

وقال :

يا سعاد ! إنّ لبّـکِ عـسجدٌ
إن جرأتُ علی هوی حوريّـةٍ
إن تجاوزتُ الخطوط الحمر فـي
إن تلطّـخ في رغـامي… أعتذر
من سلالات الکـرام  … أعتذر
ارتکـابٍ للجـسامِ  … أعتذر

ومن الموضوعية أن أذكر أنّي وقفت في  بعض قصائده المترجمة على عسر المقابلة بين العروضين العربي والفارسي ، وعذره أنّ لكلّ لغة خصوصيتها في الإيقاع  ، وقد نبه إلى ذلك في مؤلفه ( عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي  في الأدبين العربي والفارسي، ۲۰۰ ) ، فهو يقول : “وإذا قارنّا بين البحور المستعملة في قصيدة التفعيلة العربية ، وبحورقصيدة التفعيلة الفارسية  نشاهد  تشابهات أحيانا  وخلافات بينهما  ” ، كما وقفت على بعض الملحوظات اليسيرة ، ولكنّها جميعا لا تغيّر وجهة نظرنا في براعة الأديب  الدكتور محمد خاقاني الذي تخرّج في مدرسته عدة أجيال من الطلبة الجامعيين تتلمذوا على يديه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة إصفهان في إيران ، وهو في جمعية اللسان العربي الدولية  رئيس لجامعة فكرية  حضارية مفتوحة  ، وإنّي أكبر فيه  تمكّنه في اللغتين ، وفروسيته في الصولتين متمنيا له المزيد من الموفقية في ريادة التوحد بين اللغتين العربية والفارسية في منطقهما  الفكري ، ووجدانهما الإنساني في بيئة إسلامية  قد توحد فيها المسلمون في الإيمان بربّ عظيم ونبي كريم ، وإن اختلفت الألسن ، وتفاوتت الأقدام على قارعة الصراط المستقيم .

أ . د . محمدكاظم البكـّاء – أستاذ النحو والصرف والعروض – خبير لغوي في البرمجيات

[email protected]

ارسال دیدگاه

*