لسان الأصفهاني

هل يعود ذلك الزمن اللؤلؤي يبرق في عيوننا، وتعود أصفهان بلبلاً مغرِّداً على أغصان حضارتنا الإسلامية ؟ وينطلق اللسان العربي يهدي نغماته العذبة إلى كل أرضنا الإسلامية في مشارقها ومغاربها، هل من عودة لذلك الزمان: الأمل، الحلم، الأمنية ؟

ليس ذلك على الله بعزيز.

فها هو ذا بلبلٌ مغرّدٌ من أصفهان يعيد لنا أيامنا الزاهية وأحلامنا القشيبة، فنتذكر من خلاله مواسم الأدب واحتفالات الشعر، ومجالس العلم في: أصفهان، وهمدان، والري، وخراسان.

ويتعانق اللسان العربي مع اللسان الفارسي، كما كانا يتعانقان عند الشعراء من ذوي اللسانين، كبديع الزمان الهمداني، والخوارزمي، وغيرهما، ويطل علينا أبو الفرج، والعماد الأصفهاني، والصاحب بن عباد، وابن العميد وغيرهم كثير. ونهتف مع الشاعر الرستمي  الفارسي، فنقول:

إذا نسبوني كنتُ من آل رستم   ولكنَّ شعري من لؤيِّ بنِ غالبِ

تماماً كما نسمع الشاعر الدكتور محمد خاقاني وهو يفتخر باللسان العربي ، فيقول:

نحن طلاب اللسان العــربي
بلسان عــربــي ربـنا
نطلب العلـم بجـدّ الطلـب
نزّل الوحي علی قلـب النبـي

وفي رسالة عذبة رقيقة متلطفة دعاني الأخ الدكتور محمد خاقاني لكتابة كلمة يدونها في صدر ديوانه ليتشرف بها كما يظن خيراً بأخيه، وقال: (فأطربني بشذرات من قلمك)

ولعل هذه الكلمة تتشرف بأن تكون ضمن كلمات في هذا الديوان.

وقبل حديثي الانطباعي عن الديوان، أود أن أعرِّف القارىء بخصوصية علاقتي بصاحب الديوان الذي التقيته ثلاث مرات من خلال مؤتمرات علمية في: المغرب، وإسبانيا(الأندلس) وأصفهان، وتوطدت أواصر علاقة لا أريد أن أضع لها توصيفاً فتفقد حميميتها، ولكني أود أن أذكر ذلك التلاقي في المشاعر والأفكار يوم أن دُعيت لمؤتمر (أثر أصفهان في توسيع اللغة العربية) والذي عقد في جامعة أصفهان بتاريخ ۱۱ـ۱۳ /۱۲/۲۰۰۶ م وكانت قد جاشت قريحتي بقصيدة عن موقع أصفهان المتميز في خريطة الثقافة العربية، وإذا بالدكتور الخاقاني يقف في افتتاح المؤتمر ليلقي قصيدة عن أصفهان، فتتعانق القصيدتان وتندغمان لتصبحا في جسد واحد هو جسد اللغة العربية، وبلسانٍ واحد هو لسان العربية الذي كان لسان أصفهان الحضاري والثقافي في الماضي الأنيق، وبمشاعر واحدة هي مشاعر المسلم الذي يحلم بالأمة الواحدة العظيمة.

وبعد، فماذا أقول في شعر ترجم عن أحاسيسي ومشاعري، ونطق عن لساني ؟ أأبحث في موضوعاته؟ أم أسبر غور أفانينه؟

ففي الموضوع لم يبتعد الشاعر عن الموضوعات المتداولة ، من قصائد وجدانية، ووصفية ، وقصائد في بعض المناسبات، وبخاصة ما قاله في زياراته لبعض البلاد: مثل: لبنان، والمغرب، وعمان وكوريا، ولا يخلو شعره من الفكاهة، كما في قصيدنه (كل على حسابكم) ويمتد إلى عالم التصوف من خلال قصائد عديدة في الديوان، فيلف شعر التصوف جناحيه حول بعض الرؤى والتوجهات، كما ورد في قصيدته حلاوة الإيمان، وقصة فراشة. ونجد الشعر الوعظي، كما في قصيدته (القدوة الكريمة)

أما فنية الديوان، فتظهر من خلال تلك الصور العبقة، التي تنتشر في ثنايا القصائد، ويبدو التناص واضحاً من خلال القرآن الكريم، فهو ينهل العديد من الصور والألفاظ بل والآيات الكاملة أحياناً، وتظهر صور التناص واضحة من خلال سورة القمر، وسورة الكوثر، وغيرهما ، كما تبدو آيات الله في الكون من خلال بعض القصائد كذلك، ويمتد ليعبر بعض الدواوين الشعرية العربية، ويقف عند بعض الأسماء اللامعة في شعرنا العربي: كامريء القيس، والمتنبي، ويظهر في الصورة والذاكرة: أبو تمام، والبحتري، ودعبل الخزاعي، كما يظهر تناصه مع الثقافة العربية في أمثالها السائرة، وحكمها الدائرة.

وإذا كانت هذه الكلمة مجرد كلمة ترحيبية لديوان يصدر من أصفهان بالعربية، فإنّني أهنيءُ العربية بكم، وأهنئكم بلغة القرآن لسان الأمة، وأعتذر عن إيراد النصوص حتى لا يتضخم مقال ترحيبي ليغدو مقالاً شارحاً ومحللاً لا يتسع له المقام، ولكني أُذكِّرُ بأمر تداوله الشاعر مع أحد الإخوة من الذين قدّموا لديوانه عن تكرار القافية في جميع أبيات القصيدة، كما ورد عند الدكتور خاقاني في تكرار لفظة سعاد، وأعتذر، يقول الأخ الكريم: (فقد بنى بعض قصائده على كلمة واحدة وكررها في القصيدة كاملة، وبحسب عمود الشعر كما ورد في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي فإن تكرار كلمتين متماثلتين في القصيدة ليستا على مقدار معين من التباعد، يعد عيبا وانتقاصا من قيمتها الفنية) وهذا القول لا شك يقصد القصيدة النمطية المشهورة، ويرد عليه الدكتور خاقاني بقوله: (إن الإخوة العرب قد لا يعرفون أن عندنا في الأدب الفارسي نمطا خاصا من الشعر نسميه بالمردّف وفيه نکرر کلمة واحدة في آخر أبيات القصيدة کافة وهذه الکلمة تسمی الرديف. ولا نعتبر هذا التکرار عيبا، لأن القافية في مثل هذا الشعر هي الکلمة التي تکون قبل الرديف ولا تتکرر طبعا. ولا توجد هذه الظاهرة في العربية) وأقول: إن القصيدة العربية عرفت هذا النمط، واستخدمه الشعراء، فالشاعر أبو إسحاق الألبيري له قصائد تتوحد وتتكرر فيها القافية، كقوله :

يا أيها المغتر بالله فر من الله الى الله

وكذلك الشاعر ابن الجياب له قصائد تتكرر فيها القافية في جميع أبيات القصيدة، كما يرد في شعر المدائح النبوية من ذلك كثير، بل وجدنا من الشعراء من يوحد بين الكلمة الأولى في البيت الشعري والقافية، هذا للعلم فقط.

وبقي أن أقول لقد استمتعت حقاً بقراءة هذا الديوان، الذي أعادني إلى قراءات عن جلال الدين الرومي، ومحمد إقبال، وغيرهم.

بقلم : أ.د/ عبد الرزاق حسين

ارسال دیدگاه

*