محمد الخاقاني

العالم…  الشاعر….

 

” وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ” هود{۱۱۸،  ۱۱۹}

عرفته عالما، ومنظرا لغويا عبقريا، وليس شاعرا ،  ولم أتخيل وأنا أقرا أبحاثه اللغوية العميقة والجريئة أن يكون شاعرا بأي شكل من الأشكال ، لماذا راودني واعتراني ذلك الإحساس… لعل ارتباط علماء اللغة الأفذاذ  بذهني هو ما أوحى لي، بل رسخ تلك الفكرة في عقلي ؛ فكلهم كتب، أو قال الشعر ابتداء  بالخليل، والجاحظ ، وابن عبد ربه… ولم يقتصر الأمر على علماء اللغة بل تعداه  إلى الأطباء والعلماء في شتى أنواع العلوم فلهم شطحات شعرية جميلة، … ولا تجد عالما لغويا إلا رويت له أشعار، كما رويت عن الخلفاء،  وإذا تمعنت في كتاب الذخيرة سيهالك الأمر، وإذا رأيت عيون الأنباء في طبقات الأطباء سيعتريك العجب العجاب ، وما ذاك إلا دليل على سحر الشعر وتغلغله في النفوس، وشيوعه وعمومه عند العرب خاصة، يقوله العالم، والكاتب، والمثقف، والشريف، والعامي، فصيح قديما، وشعبي ( نبطي، وعامي ) وفصيح حديثا؛ بأشكال مختلفة كل على حظه منه؛ حتى قيل : من لم يقل بيتا من الشعر فليس بعربي! ومع ذلك لم يسم أي منهم شاعرا، لقداسة العلم الذي تفرغ له واشتهر به، وهو اللغة في علومها المختلفة، وينطبق ذلك تماما على الشعراء ؛ فكان بعضهم كما يروى عن أبي نواس والمتنبي وغيرهم الكثير، وبتفاوت، علماء في اللغة ، وفي الحجاج اللغوي، ولكنهم لم يصنفوا أبدا من علماء اللغة ؛  وهكذا فاللغة والشعر صنوان، بل على العكس من ذلك من لم يتمكن من اللغة لا يستطيع أن يثبت كشاعر ، والشعر والأدب بعامة هو الفن الوحيد الذي يحتاج المبدع فيه إلى أداة من خارج ذاته، على عكس كل الفنون الأخرى ؛ وذلك كي يستكمل إبداعه، وهذه الأداة هي اللغة ، فكل فنان مهما كان فنه يستوفي شروط هذا الفن من داخله فقط؛ أما الشاعر فلا بد له من توافر شروط أخرى حتى يحافظ على استمراريته وقوته، ويشكل بالكلمات لوحات فنية

خالدة: وعلى قدر علمه باللغة يتميز إبداعه الشعري  ، واللغة علم مستقل بعيد عن الفن ، ولهذا تميز أصحاب الإبداع الشعري عن غيرهم من أصحاب الفنون الأخرى، ونالوا الشهرة والحظوة والتميز.

ليس هذا ما أقصد إليه، ولا أريد الخوض فيه، فذاك شأن آخر، ولكني ما أردت قوله هو أن الشاعر إذا تمكن من هذه الأداة جاء بما يسحر به القلوب، ويسلب الألباب، وما لم يأت به الآخرون ، ويموت الشعر والشاعر إذا لم يكن له عمق لغوي بكل ما في الكلمة من معنى .

وقد جمع الخاقاني بينهما…فكان شاعرا مبدعا، وعالما لغويا أصيلا، أعادني إلى تلك العصور الزاهرة المشرقة التي تجلت فيها الحضارة الإسلامية بأبهى صورها، ولا زلنا نعيش على تلك المنجزات في كل صنوف العلوم، لقد أعادني كاتب هذه القصائد إلى عنفوان التاريخ، ونصاعته ، وجلاله  واقتلعني من حاضري الهش إلى تلك الأعماق السحيقة … ، وليس غريبا أو بعيدا ذلك النبوغ الذي تميز به ، ولا شك فقد لعبت أصفهان خاصة ، وبلاد فارس عامة  دورا رئيسا في بناء الحضارة الإسلامية، والشواهد على ذلك تعز عن الوصف، ولا يمكن أن ننكرها، أو نتجاهلها، أو نمر بها مرور الكرام، فهي ثابتة الأركان، عالية البنيان؛ ولا نبالغ إذا قلنا بأن أغلب منجزاتنا تعود إلى تلك الفترة الزاهرة التي صهر الإسلام فيها الحضارات والنفوس، فأبدعت، وتجلت تلك الشعلة التي أضاءت العالم تحت شعار: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات۱۳

وتحت شعار: ” لا فرق لعربي على عجمي إلا بالتقوى”. “الناس سواسية كأسنان المشط ” “سلمان منا آل البيت… ..

لست بدعا على هذا العلم أيها الشاعر ؛ فأنت خليفة ابن فارس الذي جاء بما لم يأت به الأولون والآخرون من نظريات لغوية إبداعية جديدة، وخليفة الأصفهاني صاحب أكبر موسوعة أدبية تاريخية حتى الآن في عصر كان فيه أصحاب الحضارة اليوم لا يعلمون من أمرهم شيئا، وخليفة الجرجاني واضع أول علم في العربية بنظرياته اللغوية، وبخاصة نظرية النظم التي أخذها علماء الغرب وبنوا عليها ما أسموه علم اللغة البنائي، وخليفة سيبويه صاحب الكتاب …. لاشك أنه يستشعر العظمة في نفسه، ويستمد قوته ورسوخه الفكري واللغوي من ذلك التراث الفكري الرائع غير المسبوق في العالم أجمع … لا أريد أن أسترسل في ضرب الأمثلة، ولكني ما أردت قوله هو أنني عندما قرأت لهذا العالم ، قبل أن أعرفه ،أو أراه أدركت بأن ولادة علم جديد سيظهر على يديه ؛ لقد كان منظرا ، جريئا ، أدهشتني تلك الجرأة، وتهيبت أول الأمر، وأنا أقرأ بعض أبحاثه في الشبكة الدولية أثناء بحثي عن بعض القضايا اللغوية،  وشككت في أمره ونواياه، ولكني عندما تعمقت في قراءة تلك الأبحاث أدركت عمق النظرة التي يرى بها اللغة، وتطورها، وطرق المحافظة عليها ، كان جريئا في أفكاره وطروحاته، على ما كنا، أو تربينا على اعتباره مقدسات لا تمس، وربما كنا أحوج إلى تلك النظرات الصادقة الجريئة لكي نضع أيدينا على الداء، ولا نغمض أعيننا عما ينتاب لغتنا اليوم متباكين عليها، ومغالين في تمجيدها وتمجيد  أنفسنا، وهي تتفلت من بين أيدينا أمام ذلك الغول الذي لا انعتاق منه، دون معرفة السر وراء تراجع لغتنا بين اللغات العالمية، وصرنا نتخبط في دياجير الظلام… ، وباختصار شديد لقد لمس الخاقاني الداء، واستطاع أن ينظر إلى اللغة نظرة بعيدة عن القداسة ، لقد استطاع أن يفصل بعمق بين اللغة، والدين، وأن تطور اللغة لا يمس مطلقا بذلك الجوهر الذي

 

نعتز به، وذلك في حدود منطقية بعيدة عن المآرب التي يسعى إليها أصحاب النظريات الهدامة والانتقادات السلبية .. لقد استوقفتني واستقطبتني تلك الطروحات، وأدركت أن التغيير يأتي من أولئك العباقرة الذين ينظرون نظرة شاملة عميقة لما نعانيه، ولما نطمح إليه.

لقد أطلت في هذه المقدمة التي من المفروض أن أتحدث فيها عن الشعر والشاعر… ولكني أرى أن الخاقاني ثروة، وجذوة يجب أن نقتبس منها، ونعيد النظر في أفكاره، ونسهم إسهاما فاعلا في تضافر جهودنا لكي نخرج من هذا النفق، وهذا المأزق الذي طال مكوثنا فيه… فلم ينظر إلى اللغة بأنها لغة قوم آخرين، أو عرق آخر تربطه بهم رابطة اسمية  عابرة ، وإنما تطرق إلى صلب المشكلة التي تكمن في إظهار الحق وإحقاقه، وانطلاقا من أمر إلهي حمله بصدق ويقين، وعقيدة راسخة فسخر ذلك العلم لوجهه تعالى، ولم يكتف بأن جاب أقطار العالم يبث آراءه وأفكاره ونظرياته، ورؤاه، متقبلا، مناقشا، محاورا، متواضعا…  بل أسس جمعية ستبقى فخرا[۱]، ومنارا لعشاق هذه اللغة من عرب ومن عجم ممن وحدهم الإسلام، وطهر قلوبهم الإيمان ، فغدت ملتقى جميلا، ونبعا ثرا صافيا، وملاذا لكل ذي موهبة، وفكر، ورأي، خالصة من الشوائب، بعيدة عن المطامع والمآرب، فنالت شهرة عالمية فائقة خلال فترة وجيزة، وما ذلك إلا دلالة على مدى التوق إلى ذلك الانبعاث الحضاري الذي نطمح  إليه ونحسه ويعشش في داخلنا ويصبغ حياتنا على الرغم من أننا لا زلنا بعيدين عنه ..

هذا هو الخاقاني كما عرفته، وعهدته، وقد آثرت الحديث بإيجاز عن هذا الجانب ليس فرارا من طلبه إلي أن أكتب تصديرا لديوانه الشعري  الجديد،

وإنما لرسوخ قدم هذا العالم في علم هو من أخطر العلوم وأجلها،و طلبه يعد فرضا على المسلمين، للمحافظة على لغة القرآن، وصيانة أمة الإسلام من الشرور والآثام، ولا شك أن اللغة ليست مكونا رئيسا فقط وإنما هي جوهر انطلاقتنا، وكما يقول أهل النسبية اللغوية : لغتي هي عالمي ، وحدود لغتي هي حدود عالمي … وما من صراع سياسي إلا يبطن في جوفه صراعا لغويا …

وبعد، سأتطرق الآن إلى ما شرفني به الشاعر، وخصني بتلك المكانة التي أعتز بها، وأفخر بذلك التاج الذي لم يوسم بأجمل منه فرق ، فزين اسمي بشرف التصدير، وشرفني بذلك التقدير، الا وهو  كتابة هذه المقدمة لديوانه الذي يضم أشعارا بالفارسية والعربية ، وكأنه يأبى إلا أن يقرن القول بالعمل ، فأن تكون عالما لغويا، وصاحب نظريات لغوية علمية دقيقة، وشاعرا في آن واحد، قد يكون ذلك غريبا بعض الشيء، ولكنه يحتمل التبرير والتعليل والتأويل…، ولكن أن تكون شاعرا بلغتك الأم، وبلغة أخرى وعلى نفس المستوى من الإبداع، فليس ذلك غريبا، أو مستغربا فحسب؛ بل يدل على عبقرية فائقة، فالجمع بين الاتجاهين الأكاديمي، والإبدعي، وقول الشعر بلغتين مختلفتين، والإبداع فيهما ما ذاك إلا دلالة على قدرة عقلية خارقة، وموهبة أصيلة، وإثباتا لنظريات علم النفس الحديثة عن الذكاءات المتعددة، وشاهدا عليها  …

التقيت  به لأول مرة في مسقط في أثناء محاضرة ألقاها في جامعة السلطان قابوس عن اللغة العربية ، ومن ثم استمعت إليه منشدا في أثناء تدشين كتابه القيم “عروض الخليل بن أحمد في الأدبين العربي والفارسي “، حيث أرى أن قيمة هذا الكتاب تأتي من طرافته وجدة موضوعه، والتفاتة ذكية مبدعة من المؤلف، كدراسة مقارنة في علم العروض في اللغتين العربية والفارسية،

وكيف امتد تأثير علم الخليل في اللغات الأخرى … وهو كتاب شائق جميل ممتع ضمنه المؤلف شواهد شعرية رائعة مدللا على ما يقول سواء من شعره، أو مستشهدا بشعراء آخرين، ولا شك أن من شأن تكوين العقلية العبقرية كما يقول علماء النفس أن تأتي بالغريب الذي لا يألفه الناس ، وقد لمست هذه الحقيقة عند الشاعر، سواء في شعره أم في أبحاثه وكتاباته …

سمعته منشدا لأول مرة ، فقلت في نفسي لعله من هواة الشعر ، ويلجأ أحيانا للترويح عن نفسه بعيدا عن علوم اللغة و النظريات اللغوية، ومماحكات النحويين ليمتع عقله بالأحان اللغوية الجميلة، ويستجم في بحور الخليل الجميلة لعلها توفر له الطاقة التي يستمد منها قوته في معالجة نظرياته وإبداعاته…،  ولكنه عندما استرسل في تلك القصيدة الرائعة، حسدته …  لم يعد الأمر كما توهمت، واستنتجت، وهيأت لي نفسي ، وإنما وجدتني أمام شاعر عملاق، يقول الشعر بأريحية، وموهبة كبيرة، وليس كما توهمت سابقا ، وإذا به ينطلق في عنان الشعر محلقا مجيدا في إلقائه معبرا عن معانيه ،مدركا لأصوله ومغازيه، ودقائقه ومعانيه … أدركت عندها سر عبقرية الرجل ، وسعة علمه واطلاعه وموهبته. لقد تحولت الصورة الذهنية لدي عنه، من باحث متعمق أصيل،  إلى شاعر مبدع  جميل .وأدركت ما يتمتع به من نبوغ وشاعرية.

أما بالنسبة لمجموعته الشعرية التي أرسلها إلي ؛ فقد اطلعت على تلك القصائد الشعرية  الرائعة، وأنا هنا إذ أؤكد للقارئ الكريم بأنه من الصعوبة أن تكتب عن شاعر ترتبط به برباط روحي عميق ….لقد لمست فيه تلك الشاعرية الحقة، وذلك الشعور بالكون، والحياة، والإنسان، منطلقا من مبادئ سامية محوطة بسياج إسلامي حصين، لمست في تلك القصائد شفافية الخيام في رباعياته، وتلك النظرة الصوفية الصافية العميقة التي صبغت شعره، وتدركها

لأول وهلة وأنت تقرأ هذه القصائد، أحسست بذلك العطر الذي تستنشقه من خفة روح الشاعر ودماثته، وصفائه، لا متزمتا، ولا متعنتا، ولكنه روحانيا  صافيا رقراقا، عميقا، جزلا.. يتموج في شعره كما البحر؛ رقراق حين يصل بك إلى الشاطئ، لجي عميق حين يغور  بك في الأعماق؛ فلسفي في نظرته للحياة والوجود…عاطفي تدهشك بساطته حين يتغزل ، مبدعا في غزله تتنسم منه عشقه للمرأة وتقديره لها، تربطه بها عاطفة قوية ، يصفها بدقائقها الصغيرة التي لا تخطر على قلب بشر، مدركا مواطن الجمال فيها وبواطنه ، تغريه بحركاتها وسكناتها، كيف لا وهو يجمع الرقة والدماثة والشفافية… غزلياته تنم عن روح عذبة، مرحة، محبة للحياة، متفكها متندرا، لا يكتم إعجابه وعواطفه، يرسلها على سجيته في حينها فياضة مدرارة، فتحس بنكهتها وحيويتها، وينقلك بخياله الخصب إلى تلك اللحظة، ويشاطرك شعوره، وعالمه، بصدق عبارته، وعمق تأثيرها العاطفي في نفسك…  تلك الشاعرية لا تنطلق إلا من روح شاعرة :

 

أنا مستاء من وعاظ بلادي

إذ لاموني في حبي

هم منعوني من رؤية حورائي

منعوني أن أصغي لأغاني الحب وأنغام أحبائي

أما في قصيدته ذكريات بيروت التي أفقدته غيدها صوابه فيصف بأسلوب شائق ذلك الجمال الساحر مسقطا عليه نفسه الشاعرة، وإحساسه المرهف بالجمال:

تارة صار بصور كالذي
وبصيدا صاد جما وافـرا
تارة أخرى ببيـروت التي
في طرابلس وفي بنت جبيل
امرؤ القيس لوادي حومل
  زال منه العقل من فرط الجوى
من جميلات كغـزلان الربى
جننته حورها حـتى غوى
قد رأى أجمل ممـا قد روى
فدخول  ثم  من سقط اللوى

ولا نريد في هذه العجالة الاسترسال في الحديث عن هذا الجانب، ونترك للقارئ اكتشاف ما توحي به قصائده من أسرار باحت بها نفسه في لحظات الوهن الذي اعتراه أمام أسرار الجمال .

أما إذا انتقلت إلى شعره الفلسفي العميق، فتحس بروحانية مطلقة ، وبشفافية إيمانية عميقة وكأنك أمام شاعر آخر، وهذه السمة في رأيي من أهم سمات الشاعرية، حيث تتجلى مرونة الشاعر، غير منغلق على نفسه، يطوعها كيف يشاء، وأكثر ما يتجلى ذلك في قصيدته الفلسفية العميقة ” المرآة “:

كل مرآة تنال النور من وجه الحبيب

تعكس الأنوار فوراً حيث تستعصي العبر

كل ما في الكون مرآة لسيماه الجميل

إنه الرائـي هـو المرئـي ذا سرّ القدر

كل ما في الكون قدام المرايا صاحبي!

ليس في خلف المرايا أي سـر أو خبر

وتلك الأفكار يغلفها بصور إبداعية جميلة ليست بالمعقدة ولا بالغريبة تنم عن بساطة روح الشاعر، يأخذك الخيال ويجمح بك في عوالم لامتناهية من التفكير الصوفي العميق، وتحس بتلك النظرة التأملية العميقة، وذلك الشعور الغامر الذي تتميز به روح الشاعر فتنفد إلى داخلها وتعايشها وتستشفها بكل وضوح، تلك الصبغة الواقعية المتعمدة التي أضفاها على لغته، وكأنه يصوغ رسالة إلى أولئك الشعراء الذين يوغلون في تعقيد الفكرة ويعنفون في سطوتها

وعدم وضوحها وكأنهم يكتبون لأنفسهم، لا أقول بأن الشعر ينبغي أن يكون سهلا واضحا مفهوما بسيطا أو سطحيا، ولكن أن يجمع العمق في الفكرة، والقدرة على إيصالها بلغة سليمة مفهومة، ولا يستطيع ذلك إلا من ملك زمام اللغة، واستطاع أن يحول أفكاره وصوره بصورة تجمع بين القوة والأصالة، والعمق والوضوح … وهذا ما أطلق عليه قديما وحديثا السهل الممتنع مع تحفظاتي الكثيرة على هذه العبارة، فهو ليس سهلا بالمعنى الذي توحيه بساطة كلمة السهولة ولكنه سهل على من امتلك عناصر اللغة يطوعها كيفما يشاء  من جهة، والعناصر الفنية المكملة لها من جهة أخرى، ولذا ندرك سر ذيوع  وشيوع أشعار المتنبي قديما، ونزار حديثا، وذلك لقدرتهما الفائقة على تطويع هذه اللغة وصبغها بالمضامين القوية التي عبروا عنها من خلال صورهم وإبداعاتهم غير المسبوقة.

يتميز شعر الخاقاني بتلك الوسطية المرنة التي لاتعوقه عن الانتقال والتحرك في كافة الجوانب، وكم كنت أتمنى لو أن لي معرفة باللغة الفارسية كي اقرأ شعره في مظانه، وأتلمس الفروق الدقيقة بين إبداعه بلغته الأصلية وباللغة العربية، مع أن هناك بعض القصائد المترجمة عن شعره باللغة الفارسية.

وأخيرا؛ أقول إن هذا الشاعر وهذا الشعر قد تميز عن غيره بجوانب تجديدية أصيلة مبتكرة، وبخاصة في توسعه في الاستعمال اللغوي مستندا على أصول لغوية تنم عن ثقافة واسعة، وإدراك عميق بدقائق اللغة، وقواعد الإعلال والإبدال والإدغام؛ كما في قصيدته “بين الحبيبة والحبيب “. كما أنه امتلك القدرة على تطويع القافية كيفما يريد، وليس ذلك بالأمر اليسير كما يظن البعض، فقد بنى بعض قصائده على كلمة واحدة وكررها في القصيدة كاملة،

وبحسب عمود الشعر كما ورد في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي فإن تكرار كلمتين متماثلتين في القصيدة ليستا على مقدار معين من التباعد،  يعد عيبا وانتقاصا من قيمتها الفنية ، ولكن الشاعر أبدع في رأيي في تلك القصائد التي تشد الانتباه والتفكير لاختلاف المعنى الذي توحي به المفردة الواحدة في السياق. بل ألزم نفسه أحيانا كما فعل أبو العلاء في لزومياته ، كما في قصيدته: “أحيتني سعاد”، حيث ألزم نفسه بمجيء كلمة قبل  كلمة سعاد تنتهي بحرف الياء على وزن (أحيتني)

بت حيا منذ أحيتنـي سعـاد
كان شعري نائما كنيام كهف
أيها المفتـون قـد كفرتمـوني
  صرت صبا مذ أحبتني سعاد
بات يجري منذ أجرتني سعاد
في صلاتي منذ صلـتني سعاد

كما نلاحظ ذلك في قصيدتيه ” أين أنت ” و” أعتذر”[۲].

وأخيرا لا بد من القول بأنه ليس من السهولة استعراض خصائص الشاعر وسماته الإبداعية من خلال هذه المقدمة الموجزة، ولكنه بحاجة إلى دراسات متخصصة مستفيضة؛ لكثرة جوانب تميزه وإبداعه، وإنما اكتفيت بإشارات لمن أراد أن يستزيد.

ولا بد في ختام حديثنا عن الشاعر من الاعتراف بأن السمة الغالبة على شعر هذا الشاعر تنطق صارخة بذلك التوق إلى الوحدة الإسلامية بأجلى معانيها السامية، ويحاول التركيز عليها في كل مناسبة، مؤمنا بأن لا طريق لنا كي نصبح أمة لها مكانتها وكيانها إلا بنبذ الخلافات، والعودة إلى ذلك النبع الصافي، وتلك التجربة الرائعة التي خلقها الإسلام في النفوس، وذلك الصفاء الروحي الذي يتمتع به المسلمون، والشعور الحقيقي بالحاجة إلى التضامن والوقوف صفا واحدا، ما دمنا نؤمن برب واحد، وبرسالة واحدة، ونبي واحد، ومصير واحد… مهما تعددت الآراء، أو اختلفت السبل المؤدية إلى تحقيق ذلك الطموح، متناسين الفتن العمياء التي اجتاحت تاريخنا في لحظة ضعف عصبية، ومتعالين فوق كل الخلافات  التي مر بها المسلمون، والفتن التي مزقت، وتمزق شملهم، لكي نتمكن من  شرف تبليغ الرسالة، والأمانة التي حملناها، ونعتز بحملها:

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران۱۱۰.

د .  عطاء أبو جبين

۴/۴/۲۰۰۸

ارسال دیدگاه

*